بينما نتطلع إلى مستقبل أتمتة العمليات التشغيلية في مختلف القطاعات وعلى كافة المستويات، تُعد الحلول الرقمية والتقنيات الذكية إلى جانب الشبكات سريعة الاستجابة بمثابة العمود الفقري للمدن الذكية التي ترتقي إليها المنطقة.
ندخل إلى مفهوم البناء الذكي والمباني الذكية مع تطوير شروط العقارات حيث توفر هذه الأخيرة الكفاءة والراحة والأمامن والأداء الأفضل على الاطلاق لقدرتها على تحليل البيانات؛ وجميعها عبر مجموعة من أجهزة الاستشعار وأنظمة التشغيل الذكية. تضاعف التكنولوجيا الحديثة والأدوات التقنية أهمية وجود أنظمة البناء الذكية. فمن تعزيز الكفاءة التشغيلية إلى تبسيط سير العمل، يُغيّر الذكاء الاصطناعي كل المعادلة لادارة المباني الحديثة فهو أصبح من الشروط الأساسية للتنمية المستدامة في الشرق الأوسط. ماذا يحمل لنا المستقبل القريب في مجال البناء الذكي؟ وما الاتجاهات التي يتنبأ بها الخبراء لتعزيز دور التكنولوجيا ومكانتها في المباني الذكية؟
الكفاءة والاستدامة والتكنولوجيا
تختلف المباني الذكية عن المباني التقليدية العادية التي لا تمتلك كل المميزات التي تحملها الأولى وأهمها القدرة على تحليل البيانات ومعالجتها والاستجابة إلى متطلبات السكان واستخدام معلوماتهم للحفاظ على الأمن وادارة كل أنظمة المبنى بالوقت الفعلي. عادةً ما يقوم مديرو ومشغلو المباني بمراقبة أنظمة المباني الذكية والتحكم فيها عبر نظام إدارة المباني (BMS) أو "لوحة المعلومات" التي يمكن الوصول إليها عبر الكمبيوتر المحمول أو الكمبيوتر اللوحي. قد تكون التكلفة الاولية للمباني الذكية أعلى بنسبة 25% مقارنة بالمباني التقليدية، إلا أنها يمكن أن تولد ما متوسطه 38% من كفاءة التشغيل والصيانة على مدى السنوات الثلاثين التالية. كما تشتمل المباني الذكية عنصراً قوياً للاستدامة مما يسهم بتوفير التكاليف المالية المطلوبة على المدى الطويل. تتمتع المباني الذكية باستقلاليتها حيث يمكن لأنظمتها أن تدمج أحدث ابتكارات الأتمتة والتكنولوجيا النظيفة في استخدام المياه والطاقة، مع تحسين سلامة وراحة شاغليها أيضاً. تعد المباني الذكية جزءاً من الحركة المتنامية نحو المدن الذكية والتنقل الذكي والبنية التحتية الذكية.
بالاضافة إلى الأمن والراحة تعتبر المباني الذكية من العناصر الاساسية للعبور إلى مساحات أكثر ذكاءً واستدامة. تمثل المباني 30% من استهلاك الطاقة العالمي و28% من انبعاثات الكربون المرتبطة بالطاقة. ومن أجل الحدّ من التغير المناخي، يجب التوصل إلى قطاع بناء صافٍ صفرياً من الكربون بحلول عام 2050، على أن تكون جميع المباني الجديدة صافية صفرية بحلول عام 2030. أما اليوم، فحوالي 1% فقط من المباني في العالم تعتبر صافية صفرية والسباق ما زال مستمراً لتطبيق سياسة الطاقة المتجددة والحدّ من الانبعاثات الكربونية ومحاربة التغير المناخي. بالنسبة للمباني الذكية، من السهل فيها الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية فهي تتمتع بكفاءة عالية لاستخدام الطاقة وتأتي أنظمة مدعومة من الطاقة المتجددة داخلياً وخارجياً.
ومن الأمور الأساسية لدفع الاستدامة في المباني الذكية الوصول إلى بيانات استهلاك الطاقة الدقيقة في الوقت الفعلي إذ يمكن لأجهزة الاستشعار المنتشرة في المباني، والتي يتم تمكينها بواسطة أحدث قاعدة للبنية التحتية للشبكات السلكية واللاسلكية، أن تدعم عملية جمع البيانات واستخدامها لتحويل المباني إلى مساحات أكثر استدامة.
الخليج يستقبل المباني الذكية
يسلّط خبراء التقنية الضوء على دور البيانات ودمج التكنولوجيا في مراحل تطوير المدن الذكية التي تشكّل مستقبل البناء الرقمي. نرى أهمية الجمع بين التخطيط الحضري والمباني الذكية مما يتيح انشاء التوأمة الرقمية والحدّ من الانبعاثات الكربونية والعوامل الملوثة الأخرى التي تضرّ بالنظام البيئي بأكمله. ويتم ذلك من خلال تثبيت أجهزة استشعار في المباني الذكية لقياس الحرارة وكمية الطاقة المستهلكة وغيرها من التقلبات الآنية.
في غضون ذلك، تنسجم اتجاهات الشرق الأوسط والخليج مع تحول المباني هذا لا سيّما لتحقيق الاستدامة والتنمية الحضرية. خلال السنوات الماضية، شهد الطلب على المباني الذكية ارتفاعاً ملحوظاً مع زيادة اعتماد التكنولوجيا والحاجة إلى الوسائل التي توفر الطلبات بسرعة ودقة. في هذا الاطار، من المتوقع نمو قيمة سوق المباني الذكية العالمي من 6 مليارات دولار في عام 2023 إلى نحو 408 مليارات دولار بحلول عام 2030. يتيح هذا الازدهار فرصاً واعدة لتحسين البيئة المجتمعية والتركيز على أهمية المباني الذكية من كل جوانبها. وبموجب استراتيجية الرقمنة وأتمتة العمليات التشغيلية، تسعى دول الخليج والمنطقة المجاورة إلى احتضان المباني الذكية لتطبيق التكنولوجيا الخضراء. تهدف دبي إلى التحول للطاقة المتجددة 100% والحدّ من البصمة الكربونية لترسيخ مكانتها الرقمية الرائدة عالمياً. من دون شك، للمباني الذكية تأثيرها الايجابي على المدى الطويل مع تركيز الحكومات على توفير كل مقومات العيش المتقدّم والأكثر ذكاءً. كما ترتقي المشاريع المستقبلية بالابتكار والرقمنة لضمان الاستمرارية والمنافسة.
تجذب اليوم منطقة الخليج أعلى تصنيفات المباني الذكية مع فرض قوانين بناء شاملة تحوّل البيئة العمرانية ككل وتضفي تجارب استثنائية لأصحاب المباني أيضاً. توازياً يواصل قطاع البنية التحتية في الامارات النمو مع نمو مشاريع المباني الذكية حيث تسجل الامارات نمواً سنوياً مركباً يصل إلى 5% بين عام 2025 وعام 2030. ووفقاً للدراسات سجلت قيمة مشاريع البناء المخطط لها ضمن الدولة نحو 112 مليار دولار مع مطلع العام الحالي كما تبلغ قيمة المشاريع المقبلة في هذا المجال في الامارات تحديداً 772 مليار دولار. هذا الأمر يعكس التزام الامارات بتطويرها البنية التحتية السكانية لديها والاستثمار في المباني الذكية أكثر والعمل على تطوير الخدمات أيضاً بما يشمل قطاعات الاتصالات والطاقة. تكشف الدراسات عن حجم المباني الذكية في الإمارات الذي سينمو بمعدل سنوي قدره 11.73% ليصل إلى نحو 500 مليون دولار بحلول 2028 مما يظهر اتجاهاً واضحاً نحو الاستثمار بهذه المباني بعيداً عن البنية التقليدية.
تُحدث المباني الذكية نقلة نوعية في مستقبل المملكة العربية السعودية أيضاً بما يتماشى مع أهداف رؤية 2030. تشجع المملكة على دمج التقنيات الذكية والتكنولوجيا والبنية التحتية الرقمية المتقدمة لانشاء المباني الذكية عالية الكفاءة. تبرز المملكة فعلاً في هذا المجال مع بدء مشاريع الأبراج الذكية والفنادق والمنازل الذكية إلى جانب الشركات والمؤسسات التي تخضع إلى أعلى معايير من البرمجيات الرقمية مما يخلق تكاملاً تاماً بين البيئة السعودية النامية ومفهوم المدن الذكية. تنتج المباني الذكية في المملكة بيانات ضخمة تتعلق بسلوك السكان وظروف حياتهم اليومية. كما تفتح المباني الذكية الآفاق لتحسين العمليات التشغيلية على كافة المستويات لتحسين الكفاءة بالدرجة الأولى. كما تعمل المباني الذكية على خلق الرفاهية للأفراد والاستفادة من الطاقة المتجددة والأجهزة الخضراء الصديقة للبيئة.
كذلك ترفع قطر أسهمها بالبناء الذكي مع استخدام البنية التحتية الرقمية المتكاملة. وتعتبر قطر اليوم من أبرز الدول العربية المتفوقة رقمياً حيث تجمع بين التكنولوجيا الحديثة والتصميم الرقمي فائق الذكاء.
آفاق غامرة والذكاء الاصطناعي لا يغيب عن المشهد
مع استمرار مشهد أتمتة المباني ستظهر نماج أعمال جديدة مدفوعة بالتركيز على كيفية ادارة الطاقة وكفاءتها، وتعزيز دور الذكاء الاصطناعي والسحابة التي تُعد القوى الدافعة في عامنا الحالي. على الخط نفسه، سيكون لمزودي الخدمات الرقمية ومنشئي المباني الذكية فرصة لطرح حلول جديدة شاملة لمواجهة التحديات التنظيمية والاقتصادية.
وكما رفع الجيل الخامس الرهان على أداء شبكة الجيل الثالث من خلال تقديم السرعات وخفض زمن وصول البيانات، يلعب اليوم الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً في تحويل قطاع أتمتة البناء من منظور الاستدامة وكفاءة الطاقة ودفع المباني الذكية إلى المستوى التالي. هذا هو الوقت الذي سيتمكن فيه مشغلو المباني من الوصول إلى تحليل البيانات في الوقت الفعلي، والتعلم من النماذج المطروحة، واتمام كل العمليات التشغيلية بذكاء أكبر، كل ذلك مع إدارة سهلة ويمكن للمستخدمين الوصول إليها. في حين أن ميزات الذكاء الاصطناعي ستساعد في خفض التكاليف كما أنها ستوفر مزيداً من الفرص.
استناداً إلى ما نمرّ به ستتطلب المرحلة المقبلة انشاء مساحات أكبر للتكنولوجيا على أنواعها والذكاء الاصطناعي خصوصاً لتمكين المستخدمين من اتخاذ القرارات المناسبة والسلسة ومواجهة كل التحديات الممكنة بما يخدم المباني الذكية. وعلى عكس المباني التقليدية، ستتكشف المباني الذكية المدعومة من الذكاء الاصطناعي مع التغيرات المستمرة وتحسين أداء الخدمات بشكل ديناميكي. ويمكن لبرمجيات الذكاء الاصطناعي معرفة العوامل التي تؤثر على المبنى ومعالجتها لتقديم قدرات أعلى على التكيّف. ومن خلال الذكاء الاصطناعي، يمكن للمباني الذكية تحقيق التكامل بين الواقع المعزز والواقع الافتراضي مثلاً للاستجابة إلى كل المتطلبات الرقمية المتزايدة. كما ستشهد العقارات المدعومة من الذكاء الاصطناعي نمواً هائلاً لتفتح فرصاً نحو النمو والتطور السريع.
بين التوازن البرمجي والتصميم الخارجي
تحقق المباني الذكية ثورة هندسية فعلية ان كان لناحية التصميم الخارجي أو التكوين الداخلي. إلا أن ثمّة تحديات تواجه المباني العصرية وفي مقدمها تحقيق التوازن بين الأمن والخصوصية والتكامل بين مختلف الأنظمة الذكية التي تشكّل بنية هذه المباني.
تجمع المباني الذكية البيانات من السكّان للارتقاء بالخدمات مما يزيد احتمالية حدوث اختراق رقمي. هذا الأمر يتطلب رفع مستوى الأنظمة الآمنة للحماية الالكترونية دون تعرّض السكّان إلى خطر.
التحدي الآخر يكمن بتحقيق التكامل المرن بين مختلف الأنظمة التي تتألف منها المباني الذكية (أنظمة التكييف والاضاءة...) إلى جانب التقنيات التي تعتمد عليها المباني الذكية (انترنت الأشياء، الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة).
وتُعد الكلفة الباهظة لتوفير هذه التقنيات في المباني الذكية من أهم العوائق لتطبيق هذا المشروع، حيث تتطلب المباني الذكية بنية تحتية رقمية متطورة تشمل كل أجهزة الاستشعار المستخدمة مما يتطلب استثمارات هائلة سنوياً. نتيجة ذلك، يتم تنفيذ مشاريع المباني الذكية على مراحل لتوزيع التكاليف المطلوبة.
ومن التحديات المتمثلة أيضاً توفر الصيانة المطلوبة باستمرار لضمان تشغيل الأنظمة الداخلية بكفاءة إلى جانب تحديث البرمجيات داخل المباني الذكية.
عوامل عدّة تتقارب لتسرّع اعتماد التكنولوجيا في المباني وتحويلها إلى مبانٍ ذكية تحاكي العصر الجديد بأنظمة متقدمة. على ضوء ذلك، يجب على المؤسسات اتخاذ الاجراءات المطلوبة تحضيراً لمراحل البناء. ومن المتوقع أن يكون مستقبل المباني الذكية رحلة ديناميكية وتحويلية، مدفوعة بالتقدم التكنولوجي والتركيز المتزايد على الاستدامة والكفاءة. فمع استمرار تطور الابتكارات في إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والتقنيات الخضراء والحلول الرقمية، ستصبح المباني الذكية أكثر تكاملاً وذكاءً واستجابة لاحتياجات ساكنيها والبيئة أيضاً. إن تبني هذه الاتجاهات المستقبلية لن يؤدي فقط إلى تعزيز أداء البناء، بل سيساهم بتوسع المدن الذكية لعالم أكثر استدامة.