تعكس استراتيجيات الدول العربية تطلعات المنطقة في سوق التكنولوجيا والتقنية. من دبي، إلى المملكة العربية السعودية وصولاً إلى قطر فالكويت تقود الحكومات سياسة تطوير الحلول الذكية في البلاد والتي تهدف إلى نقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى تحاكي العصر الجديد.
تقف اليوم المؤسسات والشركات في الخليج خلف مبادرات عدّة تركّز على نماذج الذكاء الاصطناعي العربية واهمية التحول الشامل لتحقيق الريادة الرقمية ودعم حركة البيانات الكبيرة. تقدمت دول المنطقة في صناعة نماذج الذكاء الاصطناعي العربية التي تمثل انجازاً فعلياً في مسيرة المنطقة التكنولوجية. تجسّد هذه الخطوة أهمية وجود الحلول الرقمية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي واليومي، واستخدام التقنية في مختلف المجالات والقطاعات بات ضرورة. وبحسب الخبراء، ستلعب نماذج الذكاء الاصطناعي العربية دوراً فاعلاً في المجتمعات العربية على أمل أن يتم تطويرها وأخذها إلى معايير جديدة أكثر كفاءة. تُستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي في أكثر التطبيقات الذكية انتشاراً في الشرق الاوسط. كما تعزز الأخيرة اقتصاد المنطقة والدول العربية بشكل خاص حيث ترتبط القطاعات بالتكنولوجيا بشكل مباشر مثل قطاع التعليم والرعاية الصحية والاعلام. وتلبي نماذج الذكاء الاصطناعي العربية ثقافة الدول هنا وتعزز المحتوى الرقمي العربي مع المساهمة بتوفير بنية تحتية رقمية متقدمة على مختلف المستويات. فما حجم استثمارات الدول العربية في الذكاء الاصطناعي وما الخطط المطروحة في هذا المجال للمرحلة المقبلة؟
بماذا تستفيد الدول العربية من الذكاء الاصطناعي؟
استثمرت الدول العربية خلال السنوات الأخيرة مليارات الدولارات في الذكاء الاصطاعي وتطوير نماذجه حيث تُعد المملكة العربية السعودية من أكبر المستثمرين في هذا المجال على مستوى المنطقة. خلال عام 2024، أعلنت الرياض ضخ استثمارات تصل إلى 100 مليار دولار في قطاع التكنولوجيا بما يتماشى مع رؤية المملكة 2030. وفي السياق نفسه، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن اطلاق شركة "هيوماين" التي تسعى إلى تقديم نماذج لغوية كبيرة باللغة العربية، وتطوير مراكز بيانات حديثة، والبنية التحتية للحوسبة السحابية، مع التركيز على تسريع تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة والرعاية الصحية والصناعة والخدمات المالية. هذا وتهدف المملكة الى تطوير الحلول الرقمية لديها بما يخدم المواطنين ويسهل عليهم حياتهم.
كذلك الامارات العربية المتحدة، تُعد مركزاً أساسياً لتطوير الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة مع 96 مليار دولار استثماراً في التكنولوجيا أي ما يعادل 13% من الناتج المحلي الاجمالي. كذلك قطر التي أولت أهمية كبيرة للاتصالات والتقنية والتكنولوجيا خلال الفترة الأخيرة مع الثورة الرقمية حيث وصلت استثماراتها إلى 45 مليار دولار أي ما يعادل 8% من الناتج المحلي الاجمالي وأخيراً مصر التي وصلت استثماراتها في هذا المجال إلى 42 مليار دولار للعام نفسه.
تحتدم المنافسة على بناء بنية تحتية رقمية عالية الجودة مع ظهور ابتكارات جديدة وتدفق البيانات بشكل كبير في المنطقة. بحسب الدراسات، سيساهم الذكاء الاصطناعي في اقتصاد الشرق الاوسط بنحو 320 مليار دولار بحلول عام 2030 مما يعزز المكانة الرائدة التي ستأخذها الدول العربية في هذا الاطار في ظلّ الثورة التكنولوجية الراهنة.
تفتح نماذج الذكاء الاصطناعي آفاقاً جديدة تُدخل المنطقة إلى مرحلة مختلفة تماماً. وتهدف الدول من خلال هذه النماذج الى تنويع اقتصادها، الحفاظ على الاستمرارية والمنافسة في السوق المحلي والدولي وتحسين كفاءة العمليات التشغيلية وتطوير الخدمات المبتكرة. تُستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي في مجالات عدّة منها الطاقة والزراعة والرعاية الصحية والقطاع المالي والتعليم.
نماذج الذكاء الاصطناعي باللغة العربية
تُشكّل نماذج الذكاء الاصطناعي باللغة العربية ابتكاراً غير مسبوق للتطبيقات الحديثة. وتلتزم الدول العربية بتطوير هذه النماذج داخل نطاقها لخدمة القطاعات. في هذا الاطار، أعلن معهد الابتكار التكنولوجي، الذراع البحثية التطبيقية التابعة لمجلس أبحاث التكنولوجيا المتطورة في أبوظبي، إطلاق نموذجين جديدين يمثلان إنجازا مهما في مسيرة الذكاء الاصطناعي في المنطقة، وهما فالكون عربي وفالكون H1.
يُعد فالكوم عربي النموذج الأول من نوعه باللغة العربية وهو الأعلى أداءً على مستوى منطقة الشرق الاوسط. بينما فالكون H1 يوفر بدوره امكانات فائقة دون الحاجة إلى موارد كثيرة. تم تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي باللغة العربية على البيانات غير المترجمة والتي تشمل اللغة الفصحى وسائر لهجات المنطقة. يتميّز فالكون بقدرته على فهم التنوع اللغوي في العالم العربي وهو يتفوق على سائر النماذج. وقد تم تطوير نموذج فالكون H1 لتوسيع امكانات الذكاء الاصطناعي مما يفتح مجالات عدّة أمام الشركات والمؤسسات في مجال التقنية والتكنولوجيا. يؤكد وجود سلسلة فالكون في الامارات ريادة الدولة تقنياً وتكنولوجياً واستجابتها إلى طلبات العملاء والسوق مع الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي لتسهيل المهام. وتضم عائلة فالكون "H1" نماذج متعددة الأحجام تشمل: "34بي، و7بي، و3بي، و1.5بي، و1.5بي-ديب، و500إم"، ما يوفر مجموعة واسعة من نسب الكفاءة إلى الأداء، تمكن المطورين من اختيار النموذج الأنسب لبيئة التشغيل. في هذا السياق، يعتبر الخبراء ان سلسلة فالكون H1 تثبت كيف يمكن لبنية جديدة أن تفتح آفاقاً جديدة في تدريب الذكاء الاصطناعي، وتُبرز في الوقت ذاته إمكانات النماذج فائقة الصغر. يُعد فالكون اليوم من أقوى النماذج المفتوحة وأكثرها ثباتاً حيث تم تحميل هذا النموذج أكثر من 55 مليون مرة على مستوى العالم، وهو الأبرز من نوعه على مستوى منطقة الشرق الأوسط.
على الخط نفسه، تمت استضافة نموذج "عقل" على خوادم الحوسبة السحابية في المملكة العربية السعودية بما يتوافق مع أهداف رؤية المملكة 2030. تمثل هذه الخطوة مرحلة انتقالية للمملكة العربية السعودية لتعامل الحكومات والشركات في المملكة مع حركة البيانات المرتفعة ويعزز عملية تخزينها أيضاً. يُعد نموذج الذكاء الاصطناعي "عقل" من أحدث النماذج وهو قادر على فهم اللغة الطبيعية وتحليل البيانات الضخمة واتخاذ القرارات المناسبة بشكل آني وتحويل الصوت إلى نص.
ومن النماذج المطروحة أيضاً نموذج الذكاء الاصطناعي التوليدي "ميتابرين" الذي يستخدم 7 مليارات مَعلمة. يهدف هذا النموذج الى تعزيز عمل القطاعات خصوصاً في المهام المتكررة والمنافسة في المحتوى العربي. تهدف المملكة العربية السعودية لأن تكون مركزاً رائداً للتقنيات ومن أكبر المستثمرين في مجال الذكاء الاصطناعي.
صحيح أن هذه النماذج العربية لا تزال بسنواتها الاولى وحديثة التطوير الا أنها تنافس أهم النماذج العالمية مثل "ديب سيك" الذي أُطلق عام 2023 و"تشات جي بي تي" الذي أصطلق في عام 2022. أما من ناحية اقبال المستخدمين على هذه النماذج فهي تجذب نسبة كبيرة منهم حيث جرى تحميل النسخة الأولى من فالكون أكثر من 43 مليون مرة حتى الربع الأول من عام 2024.
تُثبت قطر أيضاً مكانتها في هذا المجال حيث سبق أن اطلقت أول نموذج عربي متقدم "فنار" مما يعكس رغبتها بالتطور والتقدم في المحتوى الرقمي العربي. وقد تم ذلك بالتعاون مع وزارة الاتصالات والتكنولوجيا، جامعة حمد بن خليفة وبالشراكة مع أهم الخبراء التقنيين في الدولة وأهم شركات التكنولوجيا العالمية مثل غوغل. يفهم نموذج "فنار" النصوص باللغة العربية ويدعم مختلف اللهجات العربية أيضاً. كما يدعم المشروع المؤسسات التعليمية في المنطقة ويزوّدها بالتقنيات المبتكرة.
تلتزم شركات التكنولوجيا العالمية بتوسيع مشاريع نماذج الذكاء الاصطناعي العربي والمحتوى الرقمي العربي.
تحديات المنطقة في هذا المجال
رغم النتائج المرضية الا أن دول المنطقة تواجه تحديات متعددة يتمثل أبرزها بقيمة الاستثمارات المتدنية مقارنةً بدول العالم خارج المنطقة العربية. كما لا تزال الشركات هنا تحتاج إلى تقنيات من الخارج ومنها الرقائق. هذا بالاضافة إلى الحاجة الكبيرة للطاقة وتطوير البنية التحتية الرقمية بشكل دائم والتركيز على تطوير المهارات الرقمية وتأهيلها للعمل في هذا المجال.
تعكس نماذج الذكاء الاصطناعي بالعربية والمشاريع المماثلة اصرار الدول والوزارات المعنية على تطوير التقنيات ومواكبة العصر السريع دون تهميش اللغة العربية بل التركيز عليها لتكون جزءاً من هذا النمو إلى جانب الانكليزية.
تلتزم شركات التكنولوجيا العالمية بتوسيع مشاريع نماذج الذكاء الاصطناعي العربي والمحتوى الرقمي العربي ومنها غوغل التي تسعى لتوفير الدعم لكل هذه المشاريع في المنطقة. آمال كبيرة ووعود لمستقبل أكثر ازدهاراً للمنطقة العربية والذكاء الاصطناعي فيها. فان المحتوى الرقمي قادر أن يمكّن الدول العربية ليس فقط على مستوى الشرق الاوسط بل على مستوى العالم أجمع.