من المهم متابعة مراحل نمو الدول في مسيرتها نحو عالم رقمي على الأصعدة كافة. وتستفيد الحكومات من قدرات الحلول الذكية لدفع القطاعات وتعزيز نمو الصناعات أيضاً. على ضوء ذلك، يرسّخ الشرق الأوسط مكانته كمنطقة رائدة للتقدّم التكنولوجي والابتكار الرقمي نظراً لموقعه الجاذب للاستثمار.
يحقق الشرق الأوسط منافع عدّة من خلال رقمنة المجتمع والأعمال. فعلى رغم المخاوف المتمثلة في هذا السوق، تستوعب دول المنطقة الابتكارات الحديثة مما يؤكد دور التكنولوجيا في تسريع عملية التطور وتحقيق الايرادات في الشرق الأوسط. لما توجّهت الحكومات إلى رقمنة عملياتها لولا ايجابيات هذه الخطوة وانعكاسها المباشر على اجمالي الناتج المحلي للفرد، وتقدّم الصناعات وتحوّل القطاعات وتزويد الآلات بتقنيات التكنولوجيا الرقمية الشاملة ونشر الخدمات الذكية على نطاق أوسع. ومع دخولنا النصف الثاني من العام، تستمر التكنولوجيا بالتطوّر للاستفادة من حلول ذكية لم تعد فكرة مستقبلية بل أمراً حاضراً. تتمحور استراتجية الدول اليوم حول التنافسية الرقمية للتقدّم بمجال الذكاء الاصطناعي ودمجه بمختلف القطاعات.
تظهر الشركات في الشرق الأوسط إلتزامها بالابتكار والتحول الرقمي الفعّال حيث يحدّد مزودو الخدمات استراتيجية خاصة تساهم بترسيخ مكانة المنطقة رقمياً مما يقود نحو تحولات كبيرة اجتماعياً واقتصادياً. كما تتبنى الحكومات والشركات والأفراد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التكنولوجيا بشكل متزايد لتحسين عملياتهم وتعزيز خدماتهم والتواصل مع العملاء، وهذا ما يرسم آفاقاً أبعد للمستثمرين لريادة التحول الرقمي في المنطقة.
كيف يثبت الشرق الأوسط مكانته رقمياً؟
تتزايد مشاريع المدن الذكية في الشرق الأوسط، حيث تستثمر الحكومات بكثافة في البنية التحتية والتكنولوجيا لتحسين عمليات التخطيط والنقل والخدمات العامة. وتوفر الشركات فرصاً اضافية لتعزيز الرقمنة من خلال دعم التقنيات كانترنت الأشياء وتحليل البيانات والأتمتة.
وفقاً للتصنيفات العالمية لعام 2023، احتلت مدن الشرق الأوسط مراكز متقدّمة في سباقها نحو تحقيق الرقمنة حيث أخذت الامارات المرتبة الأولى فيما جاءت دبي بالمرتبة الثانية على مستوى الشرق الأوسط. كما احتلت الرياض المركز الثالث على مستوى المنطقة ومدينة مكة في المركز الرابع تليها مدينة جدة في المركز الخامس ثم مدينة الدوحة في المركز السادس والمدينة المنورة السعودية في المركز السابع تليها مدينة مسقط في عمان في المركز الثامن بينما احتلت القاهرة المركز التاسع في الشرق الأوسط انعكاساً لأهداف التنمية والاستدامة بما يتماشى مع رؤية مصر المستقبلية.
التجارة الالكترونية: تتوسع التجارة الإلكترونية بشكل سريع في الشرق الأوسط مقارنةً بدول العالم، حيث تقدر قيمتها بنحو 49 مليار دولار بحلول عام 2025. ويمثل هذا السوق المتنامي آفاقاً كبيرة للمؤسسات التي تقدم حلول التجارة الإلكترونية، مثل الأسواق عبر الإنترنت وبوابات الدفع الالكتروني وخدمات التوصيل. وشهدت التجارة الالكترونية عصرها الذهبي في الشرق الأوسط خلال فترة انتشار الوباء حيث أظهرت التقارير المتخصصة الاقبال الأكبر لادارة عمليات التجارة الالكترونية. كما تنمو مبيعات التجارة الالكترونية بنسبة 14% سنوياً في الشرق الأوسط في وقت يزيد فيه الاقبال على الدفع الالكتروني والمنصات الرقمية. وهناك أكثر من 80% من العملاء يتجهون نحو المدفوعات الالكترونية مستفيدين من نمو التكنولوجيا المالية.
يرى الخبراء أنه لا بدّ للشركات المنافسة من السعي لتوفير تجربة متخصصة في التجارة الرقمية في ظلّ ارتفاع الطلب على هذه الخدمات وتطور أساليب الدفع رغم كل العقبات. يُعد تطوير البرمجيات في الشركات وتحسين البنية التحتية الرقمية من العوامل الأساسية لتحرّك سوق التجارة الالكترونية في الشرق الأوسط إلى الأمام. وعلى ضوء ذلك، تتبنى الحكومات مبادرات عدّة لحماية البيانات على الانترنت وتعزيز ثقة العملاء بمستقبل التجارة الرقمية. هذا ويركّز المستثمرون الأجانب على منطقة الشرق الأوسط نظراً لموقعها الذي يسمح بتوسيع قنوات الاستثمار للوصول إلى كل المنطقة.
التكنولوجيا المالية: من المتوقع أن تبلغ قيمة قطاع التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط أكثر من 3.45 مليارات دولار بحلول عام 2026. وتشمل الفرص المتاحة للمستثمرين الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، والمدفوعات الرقمية، والخدمات المالية للسكان الذين ليس لديهم حسابات مصرفية، والذين يشكّلون حوالى 59% من البالغين في المنطقة. كما تؤثر التكنولوجيا المالية على اقتصاد المنطقة مما يعزز دور الخدمات البنكية.
التعليم الرقمي: تواصل منصات التعلم الالكتروني والدورات التدريبية عبر الانترنت نجاحها بعد مرور وقت على الجائحة. فالتغييرات المجتمعية التي ظهرت آنذاك تستمر مع أسلوب تعليمي جديد بات يناسب القطاع بشكل أكبر. وفي الوقت الذي تسعى فيه المنطقة إلى معالجة فجوة المعرفة الرقمية، تسدّ الاستثمارات في منصات العلم الالكتروني الفجوة الرقمية. كما من المتوقع أن يصل سوق هذه التكنولوجيا في الشرق الأوسط إلى 23.1 مليار دولار بحلول عام 2028.
الرعاية الصحية الالكترونية: تشمل مراحل التطوّر الرقمي في الشرق الأوسط خدمات الرعاية الصحية الالكترونية التي تتيح العلاجات عن بُعد وتشخيص الأمراض وتسهيل الاتصال بين الأطباء والمرضى. وتمثّل المستشفيات في الشرق الأوسط صورة واضحة عن النمو المحقق في هذا المجال مع دمج الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات.
الأمن السيبراني: يتعرّض الشرق الأوسط إلى عدد كبير من الهجمات السيبرانية سنوياً مما يهدد سلامة الأنظمة الرقمية وأمنها خصوصاً وان اعتماد الحوسبة السحابية والحلول الذكية يزيد خطر حدوث الهجمات المحتملة. في ظلّ هذا الواقع، يكون التركيز على توفير الحماية الرقمية وتحصين الأجهزة الالكترونية من الأساسيات للاستمرار رغم الثغرات التقنية المتجددة مع اتصال مزيد من الأجهزة بالانترنت. ومن المتوقع أن يستمر نمو سوق الأمن السيبراني بمنقطة الشرق الأوسط ليصل إلى 35.4 مليار دولار بحلول عام 2026.
إقرأ المزيد: نمو الإنفاق على الأمن السيبراني... دليل خوف أو تنبّه عالمي؟
سدّ الفجوة الرقمية: رغم التطور الرقمي لا تزال فئة كبيرة من سكان المنطقة تفتقر إلى المهارات الكافية للتعامل مع الجيل الجديد من الأجهزة. وينتج عن ذلك تفاوت بمستوى المعرفة الرقمية مما يتطلّب متابعة دورية وجهوداً تعليمية وبرامج تنموية لتعزيز المهارات المتخصصة.
الذكاء الاصطناعي يدفع الابتكار والنمو
على هامش التطور السريع، يعيد الذكاء الاصطناعي هيكلة الأعمال بمنطقة الشرق الأوسط مع وضع اسراتيجيات جديدة وخطط عمل تواكب عصر الرقمنة. بحسب الخبراء، يقدم الذكاء الاصطناعي خدمات متنوعة تجعل من الشرق الأوسط منطقة تنافسية بقوة حيث ترتكز عليه الشركات لتعزيز الكفاءة والعمليات التشغيلية. فمع ظهور الذكاء الاصطناعي واعتماده بشكل أكبر، تطوّرت رؤية الشركات لكيفية ادارة عملها مع تحقيق مكاسب أيضاً نتيجة توفير الوقت ورفع الانتاجية. ولأن المهارات الرقمية مطلوبة اليوم، توسع الجامعات في الشرق الأوسط اختصاصات الذكاء الاصطناعي لتطوير الكفاءات من الشباب فأصبحت بعض دول المنطقة مقصداً لتعلّم الرقمنة والتقنية وخصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي. ومقارنةً بسائر الدول، تتفوق دول الشرق الأوسط في مجال الذكاء الاصطناعي مع توقع بزيادة الاستثمارات بنسبة 93% خلال العام الجاري.
الشركات الناشئة وتطوّرها بالمنطقة
تكشف المعلومات عن استثمارات بملايين الدولارات في الشركات الناشئة بالشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة لتبلغ نحو 253.5 مليون دولار. وتنقسم هذه الاستثمارات بين قطر وعمان مع مئة ألف دولار ثم الكويت التي تبلغ قيمة استثمارها بالشركات الناشئة مليون دولار يليها المغرب والأردن مع استثمارات بقيمة 2.5 مليون دولار و2.6 مليون دولار ثم البحرين مع استثمارات بقيمة 3.2 ملايين دولار. أما مصر فتخصص نسبة أكبر للاستثمار بالشركات الناشئة والتي تبلغ قيمتها 7 ملايين دولار أما القيمة الأهم فتبقى للامارات مع تخصيص 38.7 مليون دولار للاستثمارات في الشركات الناشئة وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الأولى مع 198 مليون دولار للاستثمار بهذا المجال.
بعد انخفاض تمويل الشركات الناشئة بين شهري يناير وفبراير، عادت لتعاود ازدهارها بقوة خلال شهر مارس حيث نجحت الشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط في جمع تمويل بقيمة 254 مليون دولار نتيجةً لصفقات عدّة تمت بتلك الفترة ووصل عددها إلى 54 صفقة فقط خلال شهر مارس.
وبمقارنة مع العام السابق، تطوّر عمل الشركات الناشئة في المنطقة تأكيداً على توجّه السوق نحو الرقمنة وتركيز النسبة الأكبر من التمويلات على البرمجيات الذكية ورقمنة الخدمات.
يلعب التحول الرقمي في الشرق الأوسط دوراً كبيراً للتنويع الاقتصادي وتحسين الوصول إلى كل الخدمات في القطاعين العام والخاص وزيادة الاتصال أيضاً. ومع ذلك، لا يمكن الاستفادة الكاملة من هذه التحولات دون معالجة الفجوة الرقمية، ومخاطر الأمن السيبراني، والأطر التنظيمية. فمن خلال توظيف المبادرات التي تقودها الحكومات واستثمارات القطاع الخاص وتعاون الشركات على مستوى عالمي، يمكن لمنطقة الشرق الأوسط التغلب على كل التحديات المتمثلة وتحسين الخدمات وتوفير المزيد من إمكانات التحول الرقمي للارتقاء بمستوى العيش وحياة الانسان.