تغيّر سوق العمل وتبدّلت مقوّماته على مدار السنوات الأخيرة حتى أصبحت تحاكي عصر السرعة بامتياز. فمع التحول الرقمي وانتقال الموظفين للعمل عن بُعد، طرحت جائحة كوفيد-19 نموذجاً جديداً من الأعمال لتتقيّد به الشركات والأفراد ومؤسسات القطاعين العام والخاص مما يسهّل حياة العملاء ويوفّر لهم خدمات أفضل تماشياً مع الواقع الجديد.
تأقلمت الشركات مع العمل الافتراضي وطوّرت تقنياتها لتجربة أفضل ومرونة أكبر حيث بات بإمكان الموظّف التواصل مع الزملاء من كافة أنحاء العالم وتنظيم اجتماعات افتراضية معهم عبر تطبيقات الفيديو. لم يعد العمل عن بُعد مجرّد حل بديل ومؤقت بل أصبح من أساسيات نجاح الشركات واستمراريتها إلا أن هذا التطوّر أدى إلى ظهور وظائف جديدة تتبنى التكنولوجيا متمحورة حول التقنية والرقمنة. ففي وقت أصبحت المؤسسات مُجبرة على تأمين البنية التحتية المناسبة لهذا التحوّل، يبقى على الموظفين إدراك كيفية استخدام البنية التحتية وتطوير المهارات مع زيادة التحول الرقمي. فبحسب الدراسات، 27% من الوظائف ستكون رقمية في العام 2022، لتصبح 29% بحلول العام 2023، وستستمر هذه النسبة بوتيرة تصاعدية مع العام 2026 لتصبح 37% على ضوء تحقيق التحول الرقمي الشامل في كافة الدول. يشير الخبراء الى أنه على الشركات أن تواكب التطورات التكنولوجية، فهذه الأرقام خير دليل على التغيّرات القادمة والتي ستساعد على زيادة الانتاجية ومواجهة التحديات خصوصاً التي فرضها الوباء.
الانترنت والالكترونيات: وسيلة تواصل واتصال تقلب المقاييس
ارتفع عدد مستخدمي الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي منذ العام 2020 حيث وصل إلى 204 ملايين شخص. فإلى جانب التطبيقات الذكية والمواقع الالكترونية التي يتم طرحها يومياً، يتوسّع المجتمع الافتراضي ليغيّر أسلوب حياتنا من جهة ويقدّم مجموعة جديدة من الوظائف الرقمية من جهة أخرى أهمها التسويق الالكتروني، إدارة مواقع التواصل الاجتماعي، الاعلانات الرقمية، تصميم المواقع الالكترونية، كتابة وإدارة محتوى، تصميم تطبيقات وألعاب إلكترونية، حماية البيانات، تطوير البنية التحتية والحوسبة السحابية، فضلاً عن صيانة التطبيقات أو تنزيل البرامج الالكترونية.
فعلى الرغم من كل الشركات التي استبدلت الالكترونيات باليد العاملة البشرية، هناك أكثر من 97 مليون وظيفة جديدة ستظهر في المجال التكنولوجي لتخلق قاعدة اقتصاد رقمي. تذكر الدراسات الأخيرة أنه سيزيد الطلب على المهن الرقمية والوظائف التي تتطلّب معرفة تقنية لا سيّما في برامج الذكاء الاصطناعي، إنترنت الاشياء، البيانات الصخمة والحوسبة السحابية. أما القطاعات الأخرى فهي أيضاً ستغيّر مسارها، كقطاع الصحة الذي سيكون بحاجة إلى عدد أكبر من الأطباء المطلعين على التطبيقات الجديدة التي توفّر الاستشارات والعلاج عن بُعد لكل المرضى. أما المختبرات فستحتاج إلى فريق من التقنيين لصيانة الأجهزة الالكترونية الطبية على مدار الوقت. بدورها برزت الشركات الصناعية بعد دمجها بالتكنولوجيا فحققت نمواً وازدهاراً على ضوء الجهود المتواصلة لتطوير هذا القطاع محلياً وعالمياً. أما الحكومات فدعمت هذه الخطوة من خلال توفير كل القدرات والحوافز لتشجيع التكنولوجيا في المؤسسات الصناعية والانتاجية بما يتناغم مع الرؤية الرقمية بمجرّد الاستفادة من قدرات الجيلين الرابع والخامس وغيرهما من التقنيات.
المهارات الرقمية أساس مهن المستقبل
مع تقدّم العصر الرقمي، يبدو أن العاملين في مجال الاتصالات والتكنولوجيا سيحتاجون إلى زيادة معرفتهم التقنية وتطوير مهاراتهم الرقمية لتتماشى مع البيئة الجديدة وتندمج مع مجالات العمل كافة. يعتبر الخبراء أن أغلبية الوظائف المستقبلية ستتطلب مهارات رقمية ولو بنسبة متفاوتة إلا أن ذلك سيسمح بانتقال الأعمال إلى نموذج عصري. يتيح التحول الرقمي ملايين الفرص، إلا أنه لا تزال هناك فجوة كبيرة بين المهارات المطروحة والفرص المتوفّرة. هنا يأتي دور الحكومات والمراكز التعليمية لنشر الوعي حول أهمية الأجهزة الالكترونية وتسليط الضوء على دورها للارتقاء بمستوى العمل، رفع حدّة المنافسة داخلياً وخارجياً، إفساح المجال أمام الابتكارات والأفكار، تحسين مستوى الوظائف والاستفادة من البنية التحتية الرقمية وخدمات الشبكات اللاسلكية.
في مسيرتها نحو التحول الرقمي، تدعم شركة أمازون مثلاً العملة المشفرّة وهي اليوم تبحث عن "قائد منتج" لتطوير العملة الرقمية لتكون واحدة من وظائف الشركة الجديدة. في هذا الإطار، يشير عملاق التكنولوجيا الى أنه بحاجة إلى من يمتلك مهارات في مجال البلوك تشين والعملات الرقمية المشفّرة لاستلام هذه الوظيفة. أما أهم الوظائف الرقمية المطلوبة حالياً فتشمل، إدارة البيانات الضخمة، تطبيقات الذكاء الاصطناعي، تصميم المحتوى للمواقع الالكترونية، التعلّم الآلي، صيانة مواقع التسويق الرقمي وإدارة عمليات الأمن السيبراني وأمن المعلومات وتحليلها.
تنعكس الثورة الرقمية على المجتمعات مهنياً، ثقافياً واقتصادياً فيختلف رد فعل الناس حيال دخول التكنولوجيا إلى حياتهم وكيفية اعتمادها بالطريقة الصحيحة. على المدى القريب، تبدو الحاجة ماسة إلى إلتزام الحكومات والشركات التكنولوجية بسياسة جديدة تتناغم مع العصر الجديد، بينما على المدى البعيد يبدو أن التكنولوجيا ستفتح تخصصات جديدة في جميع المجالات مما يضمن التطوّر الاجتماعي على كافة المستويات.
الإمارات أكثر الدول ابتكاراً خلال الجائحة في العام 2020
حدد الوباء ثقافة جديدة للشركات لا سيّما في مجال التكنولوجيا وهي ترتكز على تعزيز الأمن الرقمي، تسريع التحول الرقمي، رقمنة الأعمال ودمجها مع التكنولوجيا الحديثة للتكيّف معها. مع استمرار انتشار الوباء، يعمل مزودو الخدمات على توفير المزيد من الباقات والعروض لتجربة فريدة. من ناحية أخرى، تواصل الحكومات تطوير خططها وتعزيز دور الانترنت لانجاز المعاملات وافساح المجال لاستخدمات التقنيات الذكية. بالتوازي مع ذلك، يشهد قطاع الخدمات اللاتلامسية نمواً ملحوظاً في وقت تعمل فيه الشركات الناشئة والمؤسسات والمتاجر على اعتمادها دعماً للمشاريع الناشئة. في هذا السياق، تحتضن دبي اليوم أحدث التقنيات اللاتلامسية للدفع وتبادل النقود عن طريق التطبيقات الذكية من دون أي تلامس مباشر وعلى ضوء ذلك، ترسّخ دبي مكانتها في حلول الدفع الرقمي لتكون مركزاً للاقتصاد الرقمي في المنطقة. كذلك قطر التي طوّرت التقنيات اللاتلامسية كوسيلة للحدّ من انتشار الفيروس وتسريع المعاملات وتوفير الوقت. أما عربياً فاحتلت الإمارات المرتبة الأولى في قائمة الدول الأكثر ابتكاراً خلال الجائحة حيث تبنّت العديد من الخدمات لتطوير القطاعات وتسهيل الأعمال رغم كل التحديات تماشياً مع رؤية القيادة الرشيدة. أما في المرتبة الثانية فكانت المملكة العربية السعودية التي تجسّد نموذج المدينة المتطوّرة الداعمة للتقنيات الذكية وتسعى إلى تحقيق التحول الرقمي الشامل. في المرتبة الثالثة احتلت قطر القائمة عربياً مع تحفيزها للابتكارات الجديدة وتشجيعها للمشاريع الناشئة المساهمة في التحول الرقمي. في المرتبة الرابعة جاءت تونس تليها الكويت ثم عُمان، المغرب، البحرين، الأردن، لبنان، مصر، الجزائر واليمن في المرتبة الثالثة عشرة عربياً.
البنية التحتية الرقمية وأمن البيانات ضرورة قصوى لاستمرار الأعمال
تعتبر البنية التحتية الرقمية من العناصر الأساسية في مسيرة التحول الرقمي، إلا أنه مع مطلع العام 2022 لا تزال هناك العديد من الدول التي لا تتوفّر لديها البنية التحتية المطلوبة للاستجابة إلى كثافة استخدام الانترنت والشبكات اللاسلكية. فالشركات الناشئة بدأت تخصيص رأس مال لاحتياجات العمل عن بُعد ولتوفير الانترنت السريع للموظفين من خلال اتصال الراديو أو الأقمار الصناعية. إلى جانب ذلك، لجأت بعض الشركات إلى تكثيف التوعية للتعامل المناسب مع البيانات وكيفية التصدي للثغرات المرتقبة أو المشاكل التقنية والتهديات التقنية.
من جهتها، تسعى الحكومات إلى تقوية الترابط في ما بينها عبر التطبيقات الذكية وتطوير خدمات البنية التحتية الرقمية بما يخدم استراتيجية التحول الرقمي ومراكز البيانات والاتصال المعزز لديها. بدورها، حققت مصر سرعة فائقة في الرقمنة خلال العام 2021 مع انتشار أكبر للهواتف المحمولة، توسّع شبكة الانترنت بنسة 57.3% وتضاعف جهود وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لتحسين البنية التحتية الرقمية في البلاد ودعم المهن الالكترونية مع نمو سوق التجارة الالكترونية.
أما السعودية فأصبحت من أفضل الدول الرقمية حيث عملت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات على تحسين سرعات الانترنت ودعم البنية التحتية الرقمية التي كانت شريان الحياة لمستقبل مزدهر. وقد أثبتت السعودية في الفترة الأخيرة مكانتها على الصعيد الرقمي مع تعزيز الابتكارات والمشاريع الناشئة المدعومة بالذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. ومع انتشار الوباء، استثمرت السعودية بالتطبيقات الذكية التي سهّلت حياة المقيمين خلال فترة الحجر.
تقنياً، لا يمكن التأكد من انتشار الانترنت كلياً على الرغم من جهود الشركات المزوّدة لخدمات الاتصالات لتأمين الاتصال المباشر بالشبكة اللاسلكية لجميع أنحاء العالم. لكن من المؤكّد أن مسيرة الدول لتحقيق التحول الرقمي مستمرة لمرحلة ما بعد الوباء علّنا نصل إلى قفزة هائلة في عالم الرقمنة بحلول العام 2025. لا يزال التحدي الأكبر يتمثّل بالامكانات المادية والتي قد تعيق التقدّم الرقمي لدى العديد من الدول ذات الامكانات المحدودة.