بقلم: عمار طبا، نائب رئيس هواوي للعلاقات العامة والإعلام في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى
تعتبر المدن اليوم ميداناً حيوياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي حظي مفهومها بأهمية كبيرة خلال العقد الماضي نظراً لدوره الحاسم في مواجهة التحديات المتعلقة بصداقة البيئة والرفاه الاجتماعي والاقتصادي لأجيال اليوم والغد.
ورغم المساحة الصغيرة التي تشغلها المدن من إجمالي مساحة اليابسة على كوكب الأرض، إلا أنها تستهلك معظم الطاقة في العالم، وتنبعث منها أكثر من نصف الغازات الدفيئة العالمية. كما أنها تُعد مسؤولة عن الجزء الأكبر من الإنتاج الاقتصادي العالمي، لتشكّل بذلك ميداناً يفرض تحديات وفرصاً جديرة بتسليط الضوء عليها.
على مر التاريخ، هاجر الناس إلى المدن بحثاً عن الأمن والازدهار والحياة ضمن مجتمعات أكثر تواصلاً وتقدماً. وأدّت الهجرة إلى المدن لزيادة سريعة في عددها وحجمها. ومن المتوقع أن يتضاعف التعداد السكاني للمدن الكبرى ذات الأكثر من 10 ملايين نسمة أربع مرات بحلول عام 2030، لتستوعب بذلك خمسة أضعاف عدد سكانها في عام 1990. لكنّ تضخّم هذه المدن ينطوي على تحدياتٍ هائلة تتمثّل في الازدحام والتلوث والتعرض للكوارث الطبيعية والتغير المناخي.
التزم العديد من دول منطقة الشرق بأهداف الاستدامة ممثلة بالدرجة الأولى بخفض الانبعاثات الكربونية، حيث يستهدف بعضها تحقيق صافي انبعاثات صفرية خلال العقود الثلاثة القادمة، وهو أمر ضروري للحفاظ على ارتفاع درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي، بحسب توصيات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC).
تلعب التكنولوجيا دوراً حاسماً في تحقيق الأهداف الطموحة لدول المنطقة في مجال الحد من الانبعاثات الحضرية من خلال محاور حيوية أهمها تشجيع توليد الطاقة الخضراء وتعزيز كفاءة الطاقة وتسهيل الإدارة الشاملة. ويمكن للتكنولوجيا أن تساعد في تخفيض الطلب على الطاقة في المباني ووسائل النقل والمجالات الصناعية، وزيادة حصة مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ويمكن لأجهزة الاستشعار المساعدة في مراقبة مختلف التطبيقات والخدمات في المباني بمختلف أحجامها والتحكم في إنتاجها واستهلاكها للطاقة، الأمر الذي يقود إلى تحسين توازن الطاقة وتقليل البصمة الكربونية.
مقرّات العمل كوحدات بناء أساسية في المدن المستدامة
تكمن أهمية المقرّات أو ما يعرف اصطلاحاً بالـ "كامبوس" Campus باعتبارها أجزاء محورية من المدينة يمكن التحكم بمراحل تصميمها وتشغيلها. ويمكن تعريف مقر العمل على أنه مجموعة من المباني أو المرافق تضم تجمعاً بشرياً وتخضع لإدارة واحدة، مثل المقرات الجامعية في قطاع التعليم أو مقرات البحث أو الأعمال أو الترفيه. وبالتعامل مع هذه المقرّات وفق نهج صحيح لصداقة البيئة، يمكن دعم توجه المدن في التحول نحو مستقبلٍ مستدام.
تتوفر في المقرات مساحات مكشوفة واسعة تمكنها من الاستفادة من فرص توليد الطاقة النظيفة، مما يخفف الضغط على شبكة الكهرباء ويحدّ من الانبعاثات الكربونية. ويمكن أن يشمل توليد الطاقة النظيفة في موقع العمل تركيب الألواح الشمسية الكهروضوئية على الأسطح ومواقف السيارات، واعتماد حلول الطاقة الكهروضوئية المتكاملة (BIPV) على واجهات المباني، وتوربينات الرياح، ومضخات الحرارة الأرضية، ومحطات الغاز الحيوي. وبالإضافة إلى ما سبق، تضمن أنظمة مراقبة وإدارة استهلاك الطاقة الكفاءة الأمثل لأداء مقر العمل.
على سبيل المثال، يمكن تنفيذ مجموعة من التدابير على مستوى الحرم الجامعي تبدأ بتركيب ألواح الطاقة الشمسية وتعزيز إجراءات الإدارة والنقل المستدام ضمنها، وإشراك الطلاب والكوادر الجامعية في بحوث ومبادرات الاستدامة. ويمكن لهذه التدابير تقليل استهلاك الطاقة والانبعاثات الضارّة، وتحسين الجاذبية والقدرة التنافسية والمسؤولية الاجتماعية للحرم الجامعي. ولربما فاقت جهود الجامعة حاجتها من إنتاج الطاقة النظيفة وانتقلت لترفد شبكة الكهرباء الوطنية بطاقة خضراء. ويمكن أن تؤدي الجهود المنظّمة لتسريع وتيرة الخطط التحويلية لأهداف طموحة في أجزاء هامة من المدينة مثل تحقيق صافي انبعاثات صفرية ضمن مقرات العمل في وضع المدينة بأكملها على المسار الصحيح للحياد المناخي.
تنفيذ التحول المطلوب يستدعي وضع إطار عمل شامل لاستراتيجة الحياد المناخي التي تعنى بالتحول واسع النطاق نحو مصادر الطاقة النظيفة. وينبغي أن يشتمل إطار العمل على ثلاثة مكونات رئيسية، هي توليد الطاقة النظيفة في موقع العمل، وتبني تطبيق حلول تقنية المعلومات والاتصالات المتوافقة مع الطاقة النظيفة، واعتماد نظام شامل مستدام لإدارة الطاقة. وينطوي مسمّى "تقنية المعلومات والاتصالات منخفضة الانبعاثات" على توفير رؤية تفصيلية لكل من استهلاك الطاقة وتأثير الكربون، والذي يتم قياسه باستخدام طاقة كثافة الكربون في الشبكة (NCIe).
التحول من البصمة الكربونية إلى البصمة الخضراء
تُعبّر البصمة الكربونية عن كمية انبعاثات الغازات الدفيئة التي يُسببها مُنتَج أو خدمة ما طوال دورة حياته/ها؛ بدءاً من عملية الإنتاج وصولاً إلى الإتلاف. في حين تُحدد البصمة الخضراء مقدار الانبعاثات الذي يمكن أن يساعد المنتج أو الخدمة في تجنبها أو تقليلها في المنتجات أو الخدمات الأخرى من خلال تقديم بدائل أكثر كفاءة واستدامة.
ومن الممكن أن تخلق تقنية المعلومات والاتصالات بصمة خضراء كبيرة من خلال توفير حلول لخفض الطلب على الطاقة والانبعاثات الناجمة عن قطاعات أخرى مثل النقل والصناعة والزراعة. ووفقاً للأرقام الصادرة عن المبادرة العالمية للاستدامة الإلكترونية (GeSI)، هناك توقعات أن البصمة الخضراء لقطاع تقنية المعلومات والاتصالات ستعادل 10 أضعاف بصمته الكربونية بحلول عام 2030. وهذا يعني أن هذا القطاع قادر على تخفيض الانبعاثات بصورة أكبر من توليدها، ولا بد من التركيز على الفرص الهائلة لتوظيف التكنولوجيا في تجنب البصمة الكربونية، وهي عملية يتم تعريفها باسم البصمة الخضراء.
يدمج نظام الإدارة الشامل مصادر البيانات المختلفة كاستهلاك الطاقة وتوليدها وتخزينها وحالة الشبكة، ويستخدم خوارزميات متقدمة لتحليل أداء الطاقة في مقر العمل وإعطاء توصيات بتحسينه. على سبيل المثال، يمكن تسخير منصة موحّدة مراقبة استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون للبنية التحتية لتقنية المعلومات والاتصالات في مقر العمل والتحكم فيها ضمن مراكز البيانات والشبكات والخدمات السحابية لتوفير رؤية شاملة لأداء الطاقة والتحليل الذكي لمواطن التحسين والتطوير، وبالتالي تحقيق وفورات في الطاقة والحد من انبعاثات الكربون. وعندما تطبق مقرّات العمل نظام إدارة شاملاً من شأنه تنسيق العرض والطلب على الطاقة لمختلف أجهزة وتطبيقات وخدمات تقنية المعلومات والاتصالات، سيتم تحسين إنتاج واستخدام الطاقة والارتقاء بتجربة العمل والخدمات.
بالتماشي مع الحاجة المتزايدة نحو تحقيق التنمية المستدامة في المدن، أثمرت جهود البحث والتطوير في هواوي عن إطلاق "مقرّات العمل صفرية الانبعاثات" Net Zero Campus التي تتوافق وتدعم مبادرات والتزامات دول المنطقة والجهود العالمية وأهداف الأمم المتحدة للاستدامة الرامية لمعالجة تحديات التغير المناخي وتقليل الانبعاثات الكربونية. وتتميّز "مقرّات العمل صفرية الانبعاثات" عن غيرها من الحلول بتقديمها نهجاً شاملاً ومتكاملاً يغطي كافة جوانب إنتاج واستهلاك الطاقة في مقر العمل، والاستفادة من أحدث التقنيات والابتكارات لتحقيق أعلى مستوى من الكفاءة والاستدامة. وهذه أحد النماذج الحيوية للاستدامة الحضرية، يتوقع أن تحدث تغييراً جذرياً ونقلة نوعية في مجال تعامل المدن مع قضايا استهلاك الطاقة والأثر البيئي.