في خضم تسارع وتيرة الابتكار التكنولوجي، تشهد الصين تقدماً سريعاً للذكاء الاصطناعي، بقيمة سوقية تصل الى 20 مليار دولار، مع إمكانية أن تتضاعف خلال السنتين القادمتين بحسب الخبراء. ويثير هذا التقدم قلق البعض في البلاد نتيجة تخوفهم من احتمال اندثار بعض المهن. الا أن هدف بكين واضح، ويتلخص بضرورة التفوق على الولايات المتحدة في كل ما يختص بالذكاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي بحلول العام 2030.
سباق الذكاء الاصطناعي
ان السباق الحاصل بين الصين والولايات المتحدة، زاد مؤخرًا من أهمية الذكاء الاصطناعي، الذي ظهر في جدول أعمال قمة مجموعة الدول السبع. وقد تزامن هذا الارتفاع مع جهود الولايات المتحدة الكبيرة في سبيل اعاقة تقدم الصين تكنولوجياً. فحالياً، تقود الولايات المتحدة السباق، وهي التي تمتلك القدرة على اعاقة حركة الصين، كالقيود التي فرضتها بخصوص صادرات الشرائح الإلكترونية. ومع ذلك، يرى البعض أنه لدى الصين الإمكانية للتعويض، مستندين الى التقدم الذي تشهده شركاتها بشكل ملحوظ وفي كافة المجالات.
وادي السيليكون عامل أساسي في مسيرة التقدم
تتميز الولايات المتحدة بوجود وادي السيليكون، المركز العالمي لريادة الأعمال والابتكار. وهو الذي أنتج عمالقة التكنولوجيا كغوغل وآبل. هذا المكان المجهز والمخصص للتكنولوجيا، أفسح المجال أمام الكثير من المبتكرين من أجل العمل على تنفيذ أفكارهم وتطبيقها. فيما غاب هذا الابداع عن الشركات الصينية، والتي اقتصر أمرها على بناء أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة، فقط بعد ملاحظتها لنجاحها في مكان آخر. وفي سياق متصل، لا بد من الاشارة الى أن المستثمرين الأميركيين لعبوا دورًا حاسمًا في دعم الأبحاث الالكترونية. وأهم مثال على ذلك يكمن في استثمار شركة مايكروسوفت لـ OpenAI بقيمة مليار دولار.
وبالعودة الى الجمهورية الصينية، يعزز عدد سكانها الهائل والبالغ حوالى 1.4 مليار نسمة موقعها القائم على الساحة العالمية كما يعزز منافستها. فهذا الخزان السكاني الضخم لا يشكل فقط سوقًا ضخمًا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بل أيضاً مصدرًا هامًا للبيانات.
وما ازدهار قطاع الإنترنت في البلاد سوى دليل على ذلك، اذ أصبحت منصات مثل WeChat جزءًا أساسيًا من حياة المواطنين اليومية. فهو ليس مجرد تطبيق للتواصل بين الأفراد، بل يتخطاه الى مجموعة من الوظائف: كاجراء معاملات مالية أو حجز مواعيد او حتى تقديم تقارير ضريبية. هذا الاستخدام الواسع النطاق يولد كميات هائلة من المحتوى الذي يتم جمعه من خلال التفاعل عبر التطبيق، مشكلاً منجم ذهب لتطوير الذكاء الاصطناعي.
الصين تستكمل خطتها
ما تم ذكره سابقاً يشير الى اختلاف النهج الصيني عن باقي الدول في العالم. ومع العلم أن هذا الواقع يثير مخاوف لدى كثيرين بشأن أمان البيانات وخصوصية المستخدمين، الا ان البيئة الغنية بالبيانات تسمح للخوارزميات الذكية بالاستجابة الى سلوك المستخدم وفهمه بشكل أفضل، وبالتالي تخصيص التجارب بدقة استثنائية. وعلى الرغم من الإجراءات الذي يتم العمل عليها من أجل حماية الخصوصية، الا أن الذكاء الاصطناعي الصيني سار في استكشاف آفاق جديدة بسرعة كبيرة معتمداً على هذه البيانات، وأحرز تقدماً في الوصول إلى مستويات لا مثيل لها من الدقة والتخصيص.
أما التخوف الأكبر لدى الصين فيكمن في جهود الولايات المتحدة الكبيرة من أجل تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا المتقدمة، وخاصة على صعيد الشرائح الإلكترونية، والتي تعتبر أساسية لتقنية الذكاء الاصطناعي المتقدمة. لذلك، تعمل الصين حالياً على تعزيز ثقافة بحثية تشبه وادي السيليكون الأميركية، من ضمن خطتها لجذب مواهب متنوعة وتشجيع الابتكار على المدى الطويل.
اذاً مستقبل البحث في هذا الذكاء قائم على التمويل المقدّم من الدولة الصينية للشركات التكنولوجية، التي كانت دائمًا تولي الأرباح القصيرة الأجل أولوية على حساب الدولة لقيادة تقدم تكنولوجي أكبر. وقد اختارت الحكومة الصينية تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال المختبرات الممولة من الدولة بدلاً من تحفيز الشركات الخاصة. هذه المختبرات تحظى اليوم بدعم حكومات المدن، وقد جذبت خبراء عالميين. وهي تشير إلى التزام الصين واصرارها على استكمال البحث في مجال الذكاء الاصطناعي. ويأتي ذلك في سياق تقسيم العمل بين الدولة والقطاع الخاص الذي لا يزال ساريًا، حيث تعمل الدولة على تعزيزالتقدم التكنولوجي وتترك للقطاع الخاص مسؤولية التسويق. ويبقى السؤال الأهم: هل ستجمع الصين هذه المختبرات في نظام وطني لبحوث الذكاء الاصطناعي؟ وهل ستصبح المختبرات الممولة من الدولة ممتلكات حكومية مع نضج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؟
ما بين الصين والولايات المتحدة
تمتلك بحوث الذكاء الاصطناعي التي تمولها الدولة في الصين إمكانية التأثير بشكل كبير على الهيكل العالمي والاجتماعي. فالسوق الداخلية الصينية القوية وسلسلة الإمداد الشاملة تجعل من هذه الجمهورية جاهزة تمامًا للتحول المحتمل وكسر النظام القائم للعولمة. اذ يمكن تشبيه مشهد البحث في هذا المجال والممول من الدولة الصينية ببرنامج أبولو. وفي المقابل، قد لا تكون الولايات المتحدة، التي قامت بتفويض الإنتاج إلى حد كبير، على استعداد لمثل هذا السيناريو.
في الخلاصة، يعتبر مسعى الصين لقيادة سباق الذكاء الاصطناعي مسعى متعدد الأوجه يتسم بالتحديات والفرص على حد سواء. ومع تصاعد التنافس، خصوصاً مع الولايات المتحدة، لن تشكل الأحداث القادمة مستقبل الذكاء الاصطناعي فحسب، بل ستؤثر أيضًا على التوازن العالمي للقوى في المشهد التكنولوجي وخارجه.